عندما يؤرخ العلماء لمسيرة الإنسان في رحلة تطوره فإنهم عادةً يلاحظون أهمية اكتشاف النار وتأثيره على هذه المسيرة والذي لا يقل على اكتشاف الزراعة أهمية ، ولكن سأقتصر هنا على مرحلة اكتشاف النار وعلاقتها بالدين.
لطالما راقب الإنسان البدائي النار من حوله عندما تنشب بفعل الحرارة العالية أو البرق ، مثلما لازالت تفعل اليوم ، ولا شك أن النيران قد طالت هذا الإنسان مراراً بفعل الحوادث حتى أصبح يتفادها غريزياً وصار مخيخه يتفادى مسها حتى قبل أن يعي عقله ذلك ، ولكن يوماً ما ، لاحظ إنسان ما ولأول مرة أن النار يمكن السيطرة عليها .
إنه ربما الحيوان الوحيد الذي فكر في المسألة جدياً ، وأرجح أن سبب تفكيره هذا يعود إلى الغذاء ، فالإنسان كنباتي ولاحم في نفس الوقت يعتبر من الرئيسيات الذواقة ذات الأطعمة المختلفة والمتداخلة ، بما تحتويه من عناصر هامة لحياته ، ولاشك أن إنساننا اكتشف ذات يوم أن الغزال الذي احترق جزئياً في حريق الغابة الأخيرة ألذ وأفضل طعماً و ربما أسهل هضماً من النيئ ، ولهذا فكر في استغلال النار لشي طعامه.
أيضاً دافع الحاجة إلى الدفء أو دافع الحماية من المفترسين بإتخاذ النار سلاحاً ، قد يكون وارداً ، ولكنني أرجح أن دافع التشهي لغذاء ألذ والرغبة في التنويع والحصول على تغذية أرقى هوالدافع الأول ، نظراً لأهمية الغذاء للإنسان من جهة ولأن الدافعين الآخرين قد وجد الإنسان وسائل أخرى لتلبيتهما ، كاتخاذ جلود الحيوانات لحفظ حرارة الجسم واتخاذ الحراب للصيد والحماية ، وذلك دون الحاجة إلى النار
لقد تمكن الإنسان من السيطرة على النار بفضل عقله الذي تطور إلى درجة كافية تمكنه من الملاحظة والربط بين المعطيات والنتائج، ولقد لاحظ الإنسان أن كافة الأحياء تخشى النار وتتفادها وفي نفس الوقت لاحظ أن النار تتبع قانون معين لكي تظهر وهي حاجتها للإحتراق على شيء فإذا انعدم المصدر انطفأت ، والملاحظة الأخيرة وهي قدرة الماء على إطفائها بسهولة إذا كانت محدودة.
بهذه الملاحظات الثلاث الهامة والأولية وجد الإنسان ما يكفي من معطيات تؤدي به إلى إمكانية السيطرة على النار والتحكم بها ،والمؤكد أن استغلال الإنسان للنار متقدم على قدرته على إشعالها ، اعني أن الإنسان حاول استغلال النار التي تنشب طبيعياً من حوله بالتواجد على حوافها ثم احتاج إلى نقل النار إلى حيث يريد فتمكن من اخذ قبس منها ثم احتاج إلى إطالة عمرها فأخذ يغذيها بالمواد التي لاحظ انها تشتعل عليها ، وبعد أن ألف النار واستأنسها لهذه الدرجة ، اعتادها واعتادها صغاره فاحتاج إليها أكثر من المرات التي تجود عليه بها الطبيعة وحينها اكتشف أول وسيلة لإشعالها
ملايين السنين الطويلة المديدة اقتضاها تطور الإنسان حتى وصل إلى هذه المرحلة الفاصلة في مسيرته ، وعندما صارت النار في وسط كهفه يشعلها متى أراد ارتقى الإنسان مرحلة هامة في تطوره
كيف؟
لقد اكتشف الإنسان أن النار لا تنفعه في غذاءه فحسب ، بل أيضاً النار تضيء له المعتم وتدفئه بحرارتها في ليالي الشتاء الباردة والأهم أنها تبعد عنه أعداءه ومفترسيه الطبيعيين دون أن يجهد نفسه في الحراسة والمراقبة ليلاً ونهاراً
كان الإنسان يعتبر الليل كابوسه المستمر ، فما أن تغيب الشمس حتى يشنف كافة حواسه لحماية نفسه ، فالليل هو وقت الطعام المفضل لدى المفترسات وعينه ذات القدرات المتواضعة في الظلام تجعله فريسة سهلة ويمكن مفاجأته من أي مكان ، إن المرء ليتخيل الرعب الذي كان يعانيه الإنسان الأول في ليلة بلا قمر لدرجة أن أبسط حفيف شجرة يمكن أن يكون فهداً متسللاً يريد افتراس أحد أطفاله.
أما الآن فالنار تعطيه الضوء الذي يمكنه أن يرى جيداً ما حوله بمسافة تمكنه من التصرف .. والأهم أن النار وإن كانت تجذب بعض الهوام إلا أنها تبعد المفترسات .
هذا الوضع المستجد على بيئة الإنسان جعله يمكن أن يقضي ساعات ما بعد المغيب دون أن يكون مستنفراً يتربص اي اعتداء ، لقد استطاع أن يستخدم عقله فيما هو أهم من ذلك الآن .
إن إشعال النار والالتفاف حولها ليلاً دون ضرورة لتبادل مهام الحراسة شكّل نقطة تحول ، فبعد الصيد والطهي وتأمين المأوى في النهار ثم الاستمتاع بالدفء والنور ليلاً .. تستمر النار مشتعلة و نحن الآن جلوس حولها صامتين ننظر إليها في سكينة وهدوء وطمأنينة ، أدمغتنا بحاجة إلى أن تطور أجزاء فيها كانت مهملة بسبب مشاغل إشباع الحاجات الأساسية و توقي المخاطر كأولوية للبقاء ، تطور الدماغ صار له حاجة معنوية لأول مرة بعيداً عن الحاجات المادية، الأصوات البسيطة التي نتبادلها لتنسيق الصيد أو الحراسة ونحو ذلك لم تعد تكفي فالتأمل والوقت الفارغ والآمن الذي وفرته النار شكل أفكاراً ذات درجة أعلى من التعقيد ، وهذا التعقيد بحاجة إلى لغة تساويه حتى تتمكن من التعبير عنه ، ونمو اللغة يؤدي إلى رفع درجة التواصل بين الأفراد
من هذا يتضح أن الإنسان تعلم تفادي النار قبل أن يتعلم السيطرة عليها ، فالوقوع في النار يعني الاحتراق والاحتراق يعني الموت والموت يهدد بقاء النوع ، لهذا كانت طبيعة الإنسان حاسمة في هذا الاتجاه ، إياك أن تسمح للنار أن تمسك ، فالتلف الذي قد تسببه لك ستعجز عن إصلاحه ، إياك واحذر ، صار هذا التحذير جزء من جينات الإنسان وتوارثه ، والنوع الذي كان اكثر التزاماً به وبقوانين أخرى وفقاً للانتخاب الطبيعي بقى منه أكثر ، حتى صار متجذراً في عقل الإنسان الجمعي منذ كان عقلاً بدائياً
ولكن النار الآن بيننا ويمكن السيطرة عليها ، يمكن أيضاً تأملها ودراستها
ولنعترف أن النار ذات طبيعة مختلفة ومحيرة ، فإذا قلت لك أنه كان في غرفتي فيلاً زهرياً عندما ضغطت زراً ثم اختفى عندما تركت الزر يرتد ، ستهزأ بي ولن تصدقني ، لكن إذا قلت لك أنه كان هناك ناراً في الغرفة عندما ضغطت زراً ثم اختفت عندما تركت الزر يرتد فسوف تصدقني مباشرة
النار تواجدت عندما توفر لها وقود ثم اختفت بتوقفه، أين كانت وأين ذهبت؟
قد يبدو سؤالاً ساذجاً ولكن سذاجته تأتي من اعتيادنا على الأمر وليس لأنه غير جدير بالطرح خصوصاً بالنسبة للإنسان البدائي ، الذي تفكر:
النار تتواجد عندما تتواجد عوامل اشتعالها هذا طبيعي ، لكنها ككينونة يصعب تحديدها بمعزل عن عوامل اشتعالها
إنها بلا حجم محدد أو ثابت ولا يمكن أن نعرف بنيتها أوملمسها أو مقاييسها مثلما نفعل مع المادة
كما أنها تشع نوراً من نفسها
والأدهى إنها تأكل كل شيء بدون تمييز فلا يمكن أن تلقي بشيء في النار وترفض هذه الأخيرة حرقه
يمكن للإنسان أن يتحدى دب أو أسد بالحيلة وأن يخاتله وربما يقتله لكن لا يمكن عمل ذات الشيء مع النار
إنها وحش يؤلم ولا يتألم
إذاً قتالها مستحيل لأنها مؤثرة لكن لا تتأثر بسهولة
كما ترون إن تأمل النار المتأججة في وسط الكهف والحال هذه يكفي وحده لتحفيز العقل البشري حتى يكتشف أسرار الوجود.
فماذا اكتشف؟

وعي الإنسان والنار